فصل: مطلب: تصديق ظن إبليس وبحث نفيس في قوله تعالى: {ماذا قال ربكم}.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب مميزات داود وسليمان ومعجزات القرآن وكيفية موت سليمان عليهم السلام:

قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا} الملك والكتاب مع النبوة والرسالة ولم تجمع لنبي قبله، وزدناه على ذلك حسن الصوت حين يتلو الزبور الذي أنزلناه عليه، ولقد خصصناه بفضل آخر على إخوانه المرسلين بأن {قلنا يا جِبالُ أَوِّبِي} سبّحي اللّه واذكريه {مَعَهُ وَالطَّيْرَ} سخرناها له أيضا وأمرناها بأن تسبح معه فكان عليه السلام إذا سبح ربه سبحت معه الجبال والطيور والخلائق بدوي يبهر العقول والأسماع فيالها من نعمة عظيمة {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ 10} خاصة له أيضا ليعمل منه لبوسا للحرب ولم يلنه لأحد قبله، ومع هذه النعم العظام كان عليه السلام يتنكر ويمشي في قومه ويسألهم عن نفسه ليعرف عيوبه ولا عيب فيه وإنما يفعل ذلك تعليما لأمته، فقيض اللّه له ملكا في صورة بشر فقال له عند ما سأله نعم العبد لولا خصلة واحدة قال وما هي قال إنه يأكل من بيت المال هو وعياله، فتنبه وسأل ربه أن يغنيه عنه، فعلمه صنعة الدروع التي تقي لا بسيها تأثير ضرب السيف والرمح بمشيئة اللّه تعالى، وإلا فلا واقي من قدر اللّه، وهو أول من نسجها واتخذها آلة للحرب، وكانت قبل صفائح فصار يعمل منها وببيعها ويأكل هو وأهله من ثمنها ويتصدق بالفضلة وأوحى إليه تعالى {أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ} ألهمه ربه كيفية عملها، وقيل إنّ أَنِ هنا مفسرة لألنا له الحديد ليعمل دروعا واسعة، من السبوغ بمعنى التمام والكمال فغلب على الدروع وقيل في المعنى:
لا سابغات ولا جاءوا بأسلتة ** تقي المنون لدى استيفاء آجال

وتجمع على سوابغ كما في قوله:
عليها أسود ضاربات لبوسهم ** سوابغ بيض لا تمزقها النّبل

والسرد خرز ما خشن وغلظ قال الشماخ:
فظلت سراعا خيلنا في بيوتكم ** كما تابعت سرد العنان الخوارز

واستعير لنظم الحديد والنظم اتباع الشيء بالشيء من جنسه فيقال للدرع مسرودة لأنه توبع فيها الحلق بالحلق قال:
وعليهما مسرودتان قضاهما ** داود أو صنع السوابغ تبّع

ثم علمه اللّه تعالى كيفية نسجها فقال: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أمره ربه بالتقدير عند نسج الدروع لئلا تكون المسامير رقاقا رفيعة فتفلت ولا غلاظا كبارا فتكسر الزرد ثم خاطبه وآله بقوله: {وَاعْمَلُوا} آل داود {صالِحًا} فيما يتعلق بأمور دينكم ودنياكم لا في عمل الدروع خاصة لعموم الخطاب، ولم يخلق الإنسان إلا لأن يعمل صالحا وأوله عبادة اللّه ثم صيانه النفس من مشاق الدنيا والآخرة ثم الأدنى فالأدنى حتى الحيوان، يؤيد هذا قوله: {إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا يخفى علي شيء فلو كان خاصا بالدروع لما احتاج إلى هذه المراقبة المؤكدة، هذا وقد ظهر أن الحكمة من إلانة الحديد هو تعلمه هذه الصنعة التي هي من لوازم الجهاد الذي هو أحد أركان الدين.
قال تعالى: {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ} سخرها له كما سخر لأبيه داود ما ذكر {غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ} عند ما تسير به وبحاشيته على البساط، قالوا كانت تسير من دمشق إلى إصطخر صباحا فيتغدى فيها ويستريح ثم تسير من إصطخر إلى كابل مساء فيبيت فيها وهذه مسافة شهرين على الأقدام والإبل وهو يقطعها في ساعتين أو ثلاث ساعات من أول النهار وآخره على أكثر تعديل إذا كان يسير سيرا وسطا بريح ليّنة، وعليه فإنه عليه السلام يقطع مسافة شهر بساعة واحدة أو ساعة ونصف على بساطه بقصد النزهة فإذا حزبه أمر فيمكنه أن يقطع تلك المسافة وأكثر بطرفة عين بالريح العاصف كما جيء له بعرش بلقيس من اليمن إلى الأرض المقدسة بلحظة واحدة وهذا مما يعجز عنه البشر لأن الطائرات الحديثة مهما عظمت لا تقطع هذه المسافة بطرفة عين، وكذلك القطارات مهما عظمت لا تقدر أن تفله وتنقله بمثل هذه المسافة بالنظر لوصفه المار ذكره في الآيتين 23- 42 من سورة النمل المارة في ج 1، ولهذا البحث صلة في الآية 81 من سورة الأنبياء الآتية، فانظر رعاك اللّه قبل اختراع الطائرات هل كان أحد يصدق إمكان اجتياز مسافة شهرين بغدو ورواح ومسافة كل منهما تقدر بساعة أو ساعة ونصف إذ تقدر مسافة كل منهما من ثلاثة أميال إلى خمسة على أكثر تعديل لأن الغدو، والرواح يطلق كل منهما على ساعة واحدة أو ساعة ونصف راجع كتب اللغة تجد أن الغدو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس والرواح آخر ساعة من النهار بما يقابل الغدو، على أنا لا نعلم ماذا يحدث بعد لأن اللّه علم الإنسان ما لم يعلم وسيخلق لنا ما لم نعلمه لأن عمل البشر من خلقه ولولا أن يقدرهم عليه لما استطاعوا عمله تدبر معجزات القرآن وإخباره بالمغيبات المشيرة إلى هذه الحوادث والوقائع الكائنة والتي ستكون راجع الآية 38 من سورة الأنعام المارة.
قال تعالى: {وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} هو النحاس قال تعالى: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} الآية 92 من سورة الكهف الآتية، أي انه تعالى أذاب له النحاس كما ألان الحديد لأبيه {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} كل شيء يأمرهم به فيذعنون له قسرا لأن اللّه تعالى هددهم بقوله: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا} الذي أمرناهم به وهو لزوم طاعته فيما يأمر به سليمان وينهى وأن ينقادوا له وأن الذي يمتنع أو يحاول {نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ 12} قالوا وكل اللّه بهم ملكا فمن أمره سليمان منهم فامتنع ضربه بسوطه فيحترق واللّه قادر على أكثر من ذلك فصاروا {يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاء مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ}.
فالمحاريب اسم للقصر العظيم يحارب صاحبه غيره بحمايته وهو اسم مبالغة لمن يكثر الحرب ويطلق على المكان الذي يقف فيه الإمام قال ابن حيوس:
جمع الشجاعة والخشوع لربه ** ما أحسن المحراب في محرابه

والقدور معلومة والجفان الأواني التي يوضع فيها الطعام وانظر إلى قول الأعشى في ذلك:
نفى الذمّ عن آل المحلق جفنة ** كجابية السيح العراقي تفهق

وقول الأفوه الأودي:
وقدور كالربى راسية ** وجفان كالجوابي مترعة

أي ملأى بالطعام ووصف القدور بأنها راسيات لعظمها لأنها لا تنقل من محلها بل تبقى على الأثافي لكثرة الطبخ فيها وثقلها وشبه الجفان أي القصاع بالجوابي التي تسقى بها الأنعام لكبرها أيضا ولأن الطعام فيها دائما للضيفان كما أن الحياض يبقى فيها الماء وإنما ذكر الجفان قبل القدور مع أن القدور مقدمة عليها إذ يطبخ فيها أولا ثم يصب في الجفان بمناسبة ذكر المحاريب التي تطلق على ما ذكر وعلى الدور والمساجد التي فيها المحاريب من إطلاق الجزء وإرادة الكل وعلى الخلوات المتخذة للعبادة، وأما التماثيل فهي عبارة عن صور من رخام ونحاس وزجاج وذهب وفضة، قالوا انهم جعلوا منها ما هو على صور الملائكة وصالحي البشر وما هو على صور الطيور والحيوانات وغيرها إذ كان مباحا في شريعته وهذا مما يخالف شريعتنا ومنسوخ بها، فيا هل ترى ماذا يقول الذين ينكرون الجن في هذه الآيات القاطعات التي لا تقبل التأويل إذ صرحت بأنهم يعملون للبشر ما ذكره اللّه تعالى في هذه الآية ويسخّرون لأمرهم، وقد مر أول سورة الجن وفي الآيتين 17 و38 من سورة النمل في ج 1 ما يؤيد هذا وله صلة في الآية 29 من الأحقاف الآتية والآيات المبينة في هذه السورة، لهذا فلا قول لهم إلا الجدال بآيات اللّه التي لا يجادل بها إلا الذين كفروا راجع الآية 4 من سورة غافر الآتية.
قالوا ومن جملة ما صوروا له أسدين تحت كرسيه ونسرين فوقه وطواويس وعقبان ونسورا على درجه إلى عرشه، وقالوا إذا صعد إليه بسط الأسدان ذراعيهما وإذا جلس عليه ظلله النسران وقامت تلك الطيور الأخر على الدرج فيها به من أراد الدنو منه مهما كان غير الهيبة التي تحصل له من الجنود المصطفين شمال يمين والشياطين القائمين حول قصره ليل نهار وغير الهيبة التي كساها اللّه تعالى إياه فضلا عن وقار النبوة ودهشة الرسالة وبهاء الجمال وعظمة الملك والسلطان، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء، قالوا ومن جملة ما شيدوا له من الأبنية العظام مدينة القدس وجعل لها اثنى عشر بابا على عدد الأسباط، وكان بناؤها بالرخام والصفائح والبلور ثم بنوا له ما ذكرناه في الآية 15 من سورة النمل في ج 1 والبيت المقدس الواقع تحت الجامع القائم الآن وكان أبوه داود عليه السلام شرع فيه ولم يكمله كما أن الجامع الأموي بدمشق شرع فيه الوليد بن عبد الملك وبعد وفاته أكمله أخره سليمان لهذا قالوا إن سليمان بن عبد الملك بدأ ملكه بخير وهي إكمال البيت المقدس وختمها بخير وهو استخلافه عمر بن عبد العزيز وهذه صدفة لأن داود عليه السلام توفي قبل إكمال القدس أي جامعه وأكمله ابنه سليمان على النحو الموجود الآن تحت الجامع القائم ومواقفه غريبة وكان قديما مبنيا مرصوفا بالجواهر والذهب والفضة ولكن لما هدمه بختنصر أخذ جميع ما فيه راجع الآية 6 من سورة الإسراء ج 1، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْرًا} لنعمنا هذه عليكم {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ 13} لنعمتي قالوا كان عليه السلام قسم ساعات الليل والنهار عليه وعلى أهل بيته للعبادة فلا تمضي ساعة إلا ويقع فيها عمل صالح للّه تعالى منه أو من أفراد عائلته، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} بانتهاء أجله المقدر أمتناه وترك ما خولناه إياه وراء ظهره من الملك والسلطان الذي لم يكن لأحد قبله ولا بعده، ألا فلا يغتر أحد بهذه الدنيا فمهما أوتي منها لم يؤت مثل داود وسليمان، ومهما عاش فيها لم يعش مثل نوح والخضر عليهم السلام، فليستعمل العاقل عقله ويتق ربه فما بعد التقوى زاد نافع إلى المعاد.
قالوا كان عليه السلام يتجرد للعبادة السنة والسنتين والشهر والشهرين في بيت المقدس ويدخل معه شرابه وطعامه وكان كل يوم ينبت في محرابه شجرة فيسألها عن اسمها ومنافعها فيقلعها ويأمر بغرسها إن كانت للأكل أو الدّواء أو لغيره حتى نبتت الخرنوبة، فسألها فقالت نبت لخراب مسجدك، قال عليه السلام ما كان اللّه ليخربه وأنا فيه فنزعها وغرسها في حائطه، وقال اللهم عم على الجن موتي حتى تعلم الإنس أنهم لا يعلمون الغيب، لأنهم يزعمون أنهم يعلمون شيئا منه ويفخرون به على الإنس، وقام يصلي في محرابه على عادته، فمات عليه السلام وهو متكىء على عصاه، فبقي قائما عليها وهو ميت بإرادة اللّه تعالى وتثبيته وهو الفعال لما يشاء القادر على كل شيء.
وكان لمحرابه كوى تنظر الجن إليه منه فيرونه قائما فيدأبون على أعمالهم الشاقة التي أمرهم بها ووكل عليهم ملائكة يراقبونهم غير الذين وكلهم من قومه ويحسبونه حيا ولا ينكرون عدم خروجه لأنهم يعلمون أنه ينقطع للعبادة المدد المبينة أعلاه ولذلك بقوا بعد موته زمنا يعملون ما يأمرهم به الموكلون عليهم من الإنس ولا يقدرون أن يخالفوهم خوفا من الملك الموكل عليهم المار ذكره في الآية 11 وبقي وبقوا هكذا حتى أكلت عصاه الأرضة فسقط على الأرض فعلموا بموته لأن سقوطه لم يكن على هيئة العبادة التي كان يتعبد بها، وهذا معنى قال تعالى: {ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} عصاه تقرأ بالهمز وعليه قوله:
ضربت بمنسأة وجهه ** فصار بذاك مهينا ذليلا

وبدون همز وعليه قوله:
إذا دببت على المنساة من هرم ** فقد تباعد عنك اللهو والغزل

قال تعالى: {فَلَمَّا خَرَّ} سقط على الأرض {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ} ظهر لهم الأمر بأنهم لا يعلمون شيئا مما كانوا يزعمونه من أمر الغيب وتبين لقوم سليمان جهلهم به أيضا ولهذا رد اللّه عليهم بقوله: {أَنْ لَوْ كانُوا} أي الجن {يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ} لعلموا بموته وتركوا العمل الشاق ولما استقروا على الذل والمشقة و {ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ 15} لنفوسهم من الموكلين عليهم من الإنس والملائكة، وظهر لدى العام والخاص كذبهم في ادعائهم علم الغيب، والمراد بالجن هنا الكفرة منهم لأن المؤمن لا يكون مهانا في ملك نبيه راجع الآية 14 من سورة النمل والآية 24 من سورة ص في ج 1 فيما يتعلق بعظمة ملك داود وسليمان عليهما السلام، قال تعالى: {لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ} بن يشجب بن يعرب بن قحطان {فِي مَسْكَنِهِمْ} مأرب من أرض اليمن {آيَةٌ} دالة على وحدانية اللّه تعالى كافية لمن اعتبر وهي {جَنَّتانِ} على شفير الوادي، يشعر بهذا قوله عز قوله: {عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ} من الوادي وكان لكل منهم في جهة اليمين بستان وفي جهة اليسار بستان ولهذا يمنّ اللّه عليهم بقوله: {كُلُوا} يا آل سبأ {مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} هذه النعمة العظيمة واعملوا بطاعته فإن مأرب {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} كثيرة النبات لطيب أرضها ليست برطبة ولا يابسة ولا سبخة ولا محجرة ولا يوجد فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا شيء من الهوام الضارة حتى أن الرجل إذا دخلها وكان في ثيابه قمل أو برغوث يموت من طيب هوائها والخاصيّة التي أودعها اللّه فيها {وَرَبٌّ غَفُورٌ 16} ربكم يا آل سبأ يعفو عما يقع منكم إن شكرتم وآمنتم {فَأَعْرَضُوا} عن دعوة أنبيائهم ولم يقبلوا نصحهم ولم يراعوا حق هذه النعم المسبلة عليهم بل كذبوهم، قال وهب كانوا ثلاثة عشر وذكره ابن عباس ولم أقف على أسمائهم، وقد ذكّروهم نعم اللّه وحذّروهم عقابه وأنذروهم عذابه فلم ينجع بهم وقالوا ما نعرف للّه علينا نعمة فقولوا لربكم يحبس عنا المطر وسائر نعمه قال تعالى فحق عليهم القول {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} قال ابن عباس كان لهم سد بنته السيدة بلقيس على وادي المياه وجعلت له أبوابا وبنت دونه بركة فجعلت لها اثنى عشر مخرجا يفتحونها عند الحاجة لسقي جنبيتهم وكانت وجهت إليها مياه السيول فإذا جاء المطر احتبس من وراء السد فيمتلأ ذلك الوادي العظيم بما يزيد على حاجتهم سنريا، وكانت قسّمته بينهم بنسبة حاجة كل منهم وبقوا ينتفعون به في حياتها وبعد موتها مدة كثيرة على حسب وضعها، فلما طغوا وجابهوا أنبياءهم بما ذكر آنفا وقالوا لهم إن كان ما تقولونه حقا فافعلوا وإنا لسنا بحاجة إلى إرشادكم ولا نخاف من تهديدكم ووعيدكم، وكان قولهم هذا موافقا لأجل الانتقام منهم في قدر اللّه الذي قدره عليهم وكفروا هذه النعم بغيا وعتوا سلط اللّه تعالى الخلد على السد فثقبه فطغى الماء على جنتيهم فأغرقهما وأخرب أراضيهم وأغرقها وفاض الماء على دورهم فأخربها فمزّقوا كل ممزّق وندّ منهم من ند وصار يضرب بهم المثل عند العرب يقولون ذهبوا أيدي سبا وتفرقوا أيادي سبا {وَبَدَّلْناهُمْ} بسبب كفرهم بجنتيهم ذاتي الفواكه الطيبة والخيرات الكثيرة {جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ} حريف حامض ومرّ وكل شجرة ذات شوك سمي ثمرها خمط {وَأَثْلٍ} شجر الطرفاء وشجر آخر يشبهه أعظم منه {وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ 17} وثمره يسمى النبق ويغسل بورقه بدلا من الصابون كورق الخطمي والأسنان وقد أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلم بأن يغسل الذي وقصته ناقته بماء وسدر زيادة في التنظيف {ذلِكَ} الفعل الذي فعلناه بهم والتبديل الذي بدلناه جزاء {جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ 18} بلى ولا نجازي الشكور بل ننعم عليه، وهذا استفهام تقريري لا يجاب إلا ببلى وحقا إنه تعالى لا يجازي بأسوأ المجازات إلا الأكثر كفرا لأن كفور والكلمات التي على وزنه كشكور وغفور وغرور وعقور من أسماء المبالغة، قال تعالى: {وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها} بالأشجار والأنهار والقرى أي قرى الشام وبيت المقدس {قُرىً ظاهِرَةً} متواصلة لا تنقطع الواحدة تلو الأخرى، قالوا كان بين سبأ والشام أربعة آلاف قرية عامرة لا تقطع الواحدة حتى ترى الأخرى {وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ} بحيث جعلنا بين كل قرية وقرية مرحلة صغيرة تقدر باعتبار مشي الأقدام والإبل بأربعة فراسخ أي بريد واحد، وقد اختلف في تقديره فمنهم من قال ساعة ونصف، ومنهم من قال ساعة واحدة، وعلى كل فالفرسخ ثلاثة أميال والميل ألف باع والباع أربعة أذرع بذراع العامة وهذه على أكثر تعديل تكون ستة ساعات بسير الأقدام والإبل وأربعة بسير البغال والخيل وتقطع بساعتين أيضا، وقلنا لهم {سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ 19} من الجوع والعطش والعدوان فبطروا وجحدوا هذه النعم وسئموا الراحة التي عزّ طلبها على غيرهم ولم يصبروا على السعة والعافية التي يتوق إليها كل مخلوق {فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا} فهو أجدر أن نشتهيها ونتزود للسفر إليها من الزاد والراحلة، فعجل اللّه لهم الإجابة {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} بهذا الدعاء وطلب المشقة بطرا ففعلنا بهم ما فعلنا {فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ} لمن بعدهم يتحدثون بشأنهم وعبرة يعتبرون بهم وعظة لغيرهم {وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} بأن فرقناهم وبدّدناهم في البوادي والقفار وشتتنا شملهم فذهب الأزد إلى عمان وخزاعة إلى تهامة والأوس والخزرج إلى يثرب وآل خزيمة للعراق ولحقت فرقة منهم إلى الشام فنزلوا على ماء يدعى غسّان فسموا الغساسنة، وهم فرقة من الأزد ومنهم بنو جفنه رهط الملوك {إِنَّ فِي ذلِكَ} المذكور في قصتهم {لَآياتٍ} عظيمات وعبر جسيمات ودلائل باهرات {لِكُلِّ صَبَّارٍ} عن لذات المعاصي وعشاق الطاعات {شَكُورٍ 20} نعم اللّه عليه قلّت أو كثرت وسجية المؤمن الصادق الصبر على البلاء والشكر على النعماء فإذا ابتلي صبر ورضي وإذا أعطي شكر وتصدق.

.مطلب: تصديق ظن إبليس وبحث نفيس في قوله تعالى: {ماذا قال ربكم}.

{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} على أهل سبأ ومن حذا حذوهم وحقق ما كان يتوفاه منهم وظفر بما يأمله من طاعتهم له وعصيانهم للّه تعالى يا ويلهم {فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} باللّه إيمانا كاملا مخلصين العمل لحضرته، وفريقا انهمكوا في لذاتهم وركنوا إلى شهواتهم وانقادوا لوساوس الشيطان فعصوا اللّه وفسقوا واختاروا العمى على الهدى لأن الخبيث عليه اللعنة لما طلب إنظاره من اللّه تعالى ما كان متيقنا إتمام ما وعد به من إضلال العباد بل قال لأغوينهم ولأظنهم على سبيل الظن فلما اتبعه وأطاعه فريق منهم فقد صدق ظنه في هؤلاء خاصة وفي أمثالهم عامة بطوعهم ورضاهم واختيارهم بدليل قوله تعالى حكاية عنه {وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} الآية 22 من سورة إبراهيم الآتية أي أنه لم يقهرهم ويلجئهم لطاعته قسرا لأنه لم يشهر عليهم سلاحا سيفا ولا سوطا وإنما وعدهم ومنّاهم وموّه عليهم الحق وزخرف لهم الباطل ورغبهم بالشهوات وحسن لهم القبيح وأغراهم بالتسويف وغرهم بطول الأمل فانكبوا عليه وصفقوا لديه واقتفوا أثره ومالوا بكليتهم إليه ولو شاء اللّه لمنعه من ذلك وحال بينه وبينهم ومنعهم من الانقياد إليه.